استيقظ باكرًا كعادته وبقي شاخصاً ببصره إلى السقف ورائحة الياسمين تداعب أنفه، إنها لحظات التفكير والتأمل التي تعقب استيقاظه من النوم وعادة ما تدوم هذه اللحظات من خمس إلى عشر دقائق تكون هي سيدة هذه اللحظة في فكره، حيث إن تفكيره بها يكاد لا ينقطع، ففي عقله الكثير من الأفكار الكفيلة بأن تجعلها تعيش عيشة الملوك.
نهض من سريره متثاقلاً ليدير المذياع على القناة الإخبارية ريثما ينتهي من ارتداء ملابسه، إن الأخبار التي يسمعها كل يوم تزيد من تثاقله، اغتيالات.. اجتياحات.. تهديم.. تجريف.. تعذيب.. احتلال.. اغتصاب. تزاحمت الأفكار في رأسه كعادتها كل صباح، إن إصدارات ذهنه المتقد تكاد لا تنتهي. إن الفكرة التي داهمته هذا الصباح هي تنظيم جمعية من الناشطين يوظفون أفكارهم وجهودهم للإصلاح.. نعم هذه هي الفكرة الصائبة.
تسارعت خطواته على الإسفلت الندي من أثر ضباب شتاء ليلة البارحة. كان متجهاً إلى المقهى القريب من منزله ليحتسي فنجان قهوته كعادته وليقرأ جريدته اليومية التي لا تتغير فيها الأخبار، ومن ثم يهزمه جاره في الطاولة مثل كل يوم فهو لاعب طاولة فاشل، ولكنه كان مصراً أن يشتري كتباً تعلمه أصول هذه اللعبة ليتمكن من هزيمة جاره في يوم ما.
منذ أن تقاعد من عمله قبل عامين أصبح الجلوس على هذا المقهى قرب النافذة المطلة على الرصيف المقابل متعته الحقيقية وصلته الدائمة بالعالم. لم يكن احتساء فنجان القهوة أو قراءة الجريدة أو حتى اللعب والهذر مع جاره ما يشكل متعته الحقيقية على هذا المقهى، ولكن كانت مراقبته الحثيثة لها وهي تنتقل بين السيارات وعقود الياسمين ترتص حول معصميها الصغيرين هو شغله الشاغل، ولربما كانت مراقبته لها هي السبب الحقيقي وراء هزيمته المتكررة في الطاولة!
كانت بائعة الياسمين ذات الأربعة عشر ربيعاً صديقته الحقيقية منذ عامين، أي منذ أن تقاعد وعرف طريقه للمقهى. هو يعرف عنها الكثير بفضل تقديم (عملاً خيرياً) لها كل يوم، فهو يقوم بشراء كل ما يتبقى لديها من عقود الياسمين في آخر النهار لتعود إلى خالتها الضريرة بحصيلة اليوم كاملاً، وخلال تلك اللحظات الصغيرة التي يتبادلان فيها الياسمين بالنقود يدور الحوار اليومي وتدور الأسئلة والأجوبة.
تضاربت بداخله المشاعر ما بين الغضب والفرح والحزن وهو يراها تركض نحوه بجسدها النحيل متجاوزة السيارات المسرعة عندما لمحته يجلس في مقعده. أتته لاهثة الأنفاس ووجهها الصغير مزدان بتلك الابتسامة العريضة التي تنير حياته القاتمة كل صباح، حيته كعادتها وتبادلت معه بضع كلمات سألت فيها عن صحته وفي صوتها من الحنان ما فيه تجاهه، فهي تحبه لأنه يعطف عليها، كما أنه يكبرها بعقود من الزمن، أي لا خطر منه عليها كما تظن فالخطر كله يتمثل في جاره البدين.
لاحظ خلال الأشهر المنصرمة أنها تزداد نحافةً وطولاً، فلم يعد يضطر إلى الانحناء من النافذة ليكلمها فوجهها وهي خارج المقهى تكلمه من النافذة كان تقريباً يحاذي وجهه الآن، كما لاحظ (بأنها) أصبحت تخبئ شعرها الجميل بقطعة من القماش تغلف وجهها الملائكي ببشرته البيضاء المشربة بالحمرة. إنها كانت تكبر كل يوم وبسرعة عجيبة وتزداد جمالاً وكان شكلها يوحي بأنها لا بد تتحدر من سلالة نبيلة. ابتسم بسخرية لأفكاره التي قد تأخذ منحى غير واقعي في بعض الأحيان وفكر "أي نبيلة تلك التي تبيع الياسمين على الأرصفة"!.
هي تستحق أن تكون نبيلة أو أميرة أو حتى ملكة فلا ينقصها من الأدب أو الجمال (شيئاً)، فقط تحتاج إلى أن تلتحق بالمدرسة لتأخذ حظها من التعليم وأن تأخذ حماماً ساخناً يزيل ما علق ببشرتها من غبار وأن تسرح خصلات شعرها الأشقر المسترسل بطريقة معينة وتزين خصلاته بعقود من الياسمين، وأن تستبدل تلك الملابس الرثة بأخرى من أفخر محلات بيع الملابس النسائية.. وعندها لن يشك أحد في أن جذورها تعود إلى أصول نبيلة.
كانت في تلك الأثناء تعدو عائدة إلى مكانها على الرصيف المقابل لتستأنف رحلة بيع عقود الياسمين. هو يعلم بأنها تتعب طول الليل في نظم هذه العقود بعدما توصلت لاتفاقية مع جارتهم سيدة البيت الكبير تنص على أن تستغل هي زهور الياسمين في حديقتهم وتبيعه مقابل أن تنظف بيتها يومياً. كانت سيدة البيت الكبير مشهورة جداً في منطقتهم بأعمالها الخيرية، وهي بدورها لم تكن تتوانى عن الثرثرة والحديث عن مساعداتها للغير وبالأخص عن مساعدتها لهذه المسكينة وخالتها الضريرة وأخيها الصغير. فهي قد سمحت لها بأن تقطف زهور الياسمين كل ليلة وسمحت لها أيضاً بأن تقوم بتنظيف بيتها بالمقابل حتى لا تشعر بأنها تمن عليها بهذه الخدمة الجليلة. نعم.. نعم.. فيا لها من صفقة خيرية عظيمة!!
لم يكن يصغي جيداً لهذر جاره وهو غارق في أفكاره. شعر بأن طعم القهوة في هذا اليوم أكثر مرارة من ذي قبل وهو يراقبها تتحرك بخفة بين السيارات والابتسامة لا تغادر شفتيها وعيونها البراقة لا تغادر وجهه. غريبة تلك الفتاة الصغيرة، فبالرغم من كل ما تلاقيه من مضايقات خلال يومها فشفتاها لا (تنفكا) تنفرجان عن ابتسامتها الشهيرة الرائعة. "لابد لهذه الصغيرة أن تذهب إلى المدرسة لمزاولة دروسها التي انقطعت عنها منذ عامين" هكذا فكر متنهداً وقد تذكر ابنته عندما كانت في مثل سنها.. هي الآن مسافرة مع زوجها وطفليها وبالكاد تكتب له بين الحين والآخر.
بالإضافة إلى صداقته مع صغيرته الجميلة فرسائل ابنته كانت هي سلواه الوحيدة بعد وفاة رفيقة دربه وتقاعده. تزاحمت الأفكار مرة أخرى في عقله، هو ينوي أن يتكفل بتعليمها وإعالتها وخالتها وأخيها من جميع الجهات ودون مقابل، فسعادته ستكون لا حدود لها وهو يراها تعيش حياة كريمة مثل أترابها، كما أن إعالتها لن تؤثر عليه سلبياً من الناحية المادية.
أفاق من خططه وأفكاره وجاره يغيظه ويسأله إن كان جاهزاً لهزيمة أخرى. كان يريد أن يطلب منه بأن يوقف اللعب بينهما مؤقتاً ريثما يقوم بتعلم هذه اللعبة جيداً، "ولكن لا داعي للعجلة.. فهزيمة أخرى لن تضره بشيء"، هكذا فكر وهو يفتح الطاولة ويستعد للعب. كان دوماً يتساءل في نفسه: لماذا يحاول جاره لمس يدي صغيرته كلما تبادلا النقود بالياسمين؟! كان هذا أمراً محيراً جداً بالنسبة له كما كان يثير بداخله مزيجاً معقداً من المشاعر المتناقضة، فزوجة جاره امرأة جميلة بالمقارنة مع امرأة في مثل سنها، كما أن بائعة الياسمين في مثل سن ابنته تقريباً! إن نيته منعقدة على مفاتحة جاره في هذا الأمر في يوم ما حيث أنه لا بد أن يتوقف عن هذه المهزلة ويحترم سنه.
كان يتابعها بعيونه الحريصة وقد تراجعت خفتها في المرور بين السيارات بعدما أضناها التعب وقد كان النهار في آخره، وكان جاره يستغل شروده ليغش في اللعب فهو متأكد من أنه يغش، وإلا كيف ينهزم كل يوم أمامه؟ فهو ليس بهذا الغباء!
كان قد آن الوقت لكي تركض إليه لتريح معصميها من آخر عقود الياسمين الملتفة حولهما، "ألا تتعب من الابتسام؟". شد معطفه حول عنقه وتذكر أنه كان يريد أن يشتري لها شالاً ترتديه ليقيها برد الشتاء القادم، لا بد أن يسرع في (شراءه)، إن البرد يزداد كل يوم قسوة.
نظرت إليه بسعادة وراحة وهي تقف بالنافذة تمد يديها الصغيرتين بالياسمين، فهي تعتبره المخلص والرجل الطيب العطوف وسط قسوة الحياة المحيطة بها، ولكنها تحاشت النظر إلى جاره الذي ما انفك يرمقها بنظراته التي لا ترحم براءتها. كان يريد أن يأمرها بأن لا تبيعه (أي) من عقودها الثمينة وسيكفيها ذلك، ولكن إن غدا لناظره قريب.
تناهى إلى مسامعهم صوت رخيم يأتي من الرصيف المقابل ينادي "بائعة الياسمين"، وقد كان شاباً وسيماً في أواخر العقد الثاني من العمر تلتصق به فتاة جميلة ترنو إليه بدلال. لا بد أنه يريد تزيين عنق رفيقته بالياسمين، كان عليه أن يأتي هو إليها، ألا يرى أنها صغيرة ومنهكة كان قد وضع يده في جيب معطفه ممسكاً بالنقود ليتم عملية المقايضة اليومية، ولكنه سمح لها بأن تتواني داخل جيب معطفه حيث سرت في يده تيارات دافئة أزالت التجمد الذي كان قد علق بها من جراء برد الشتاء. كان الخيار أمامها بأن تعبر إلى ذلك الشاب في الجهة المقابلة لتبيعه العقد وترجع لتتم عملية المبادلة التي ستريحها من الركض طوال النهار. لم تكن مجبرة على فعل ذلك ولكنها حزمت أمرها، فلملمت ثوبها حول جسدها الرقيق في محاولة لاتقاء البرد وركضت باستعجال باتجاه الشاب والفتاة على الرصيف المقابل، ولكن عيناها المرهقتان لم تلاحظا السيارة المسرعة عند المنعطف، أراد أن يصرخ ويناديها بأن تقف ولكن الصرخة تجمدت من شدة البرد في فمه ولم تخرج أبداً.
في مشهد واحد.. عيونه شاخصة.. يده في جيب معطفه ممسكة بالنقود.. الرجل والفتاة على الرصيف المقابل ينتظران.. برد قارس.. سيارة مسرعة.. عقود الياسمين الأبيض الرقيق مبعثرة على الرصيف.. وجسد أبيض رقيق ممدد على الإسفلت الأحمر القاني